كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وهذا بحمد الله تعالى بين لمن له فقه وفهم في الشرع ومقاصده.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وتجويز الحيل يناقض سد الذرائع مناقضة ظاهرة، فإن الشارع يسد الطريق إلى ذلك المحرم بكل ممكن، والمحتال يتوسل إليه بكل ممكن، ولهذا اعتبر الشارع في البيع والصرف والنكاح وغيرها، شروطًا سد ببعضها التذرع إلى الربا والزنا، وكمل بها مقصود العقود، ولم يمكن المحتال الخروج منها في الظاهر. ومن يريد الاحتيال على ما منع الشارع منه فيأتى بها مع حيلة أخرى توصله بزعمه إلى نفس ذلك الشيء الذي سد الشارع الذريعة إليه، لم يبق لتلك الشروط التي أتى بها فائدة ولا حقيقة، بل تبقى بمنزلة العبث واللعب، وتطويل الطريق إلى المقصود من غير فائدة.
قال: واعتبر هذا بالشفعة، فإن الشارع أباح انتزاع الشقص من مشتريه، والشارع لا يخرج الملك عن مالكه بقيمة أو غيرها، إلا لمصلحة راجحة، وكانت المصلحة هاهنا تكميل العقار للشريك فإنه بذلك يزول ضرر المشاركة والمقاسمة، وليس في هذا التكميل ضرر على البائع، لأن مقصوده من الثمن يحصل بأخذه من المشترى، شريكًا كان أو أجنبيًا، فالمحتال لإسقاطها مناقض لمقصود الشارع، مضاد له في حكمه. فالشارع يقول: لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه، فإن شاء أخذ وإن شاء ترك، والمحتال يقول: لك أن تتحيل على منع الشريك من الأخذ بأنواع من الحيل، التي ظاهرها مكر وخداع، وباطنها منع الشريك مما أباحه له الشارع ومكنه منه، وتفويت نفس مقصود الشارع. والمصيبة الكبرى: إظهار المحتال أنه إنما فعل ما أذن له الشارع في فعله، وأنه مكنه من المكر والخداع، والتحيل على إسقاط حق الشريك، وهذا بين لمن تأمله.
قال: والمقصود: بيان تحريم الحيل، وأن صاحبها متعرض لسخط الله تعالى، وأليم عقابه. ويترتب على ذلك أن ينقض على صاحبها مقصوده منها بحسب الإمكان، وذلك في كل حيلة بحسبها. فلا يخلو الاحتيال: إما أن يكون من واحد أو اثنين فأكثر، فإن كان من اثنين فأكثر، فإن كان عقد بيع تواطآ عليه تحيلا على الربا، كما في العينة حكم بفساد العقدين، ويرد إلى الأول رأس ماله، كما قالت أم المؤمنين عائشة رضى الله تعالى عنها، وكان بمنزلة المقبوض بعقد ربا، لا يحل الانتفاع به، بل يجب رده إن كان باقيًا، وبدله إن كان تالفًا، وكذلك إن جمعا بين بيع وقرض، أو إجارة وقرض، أو مضاربة، أو شراكه أو مساقاة، أو مزارعة، وقرض، حكم بفسادهما، فيجب أن يرد عليه بدل ماله الذي جعلاه قرضًا، والعقد الآخر فاسد، حكمه حكم العقود الفاسدة. وكذلك إن كان نكاحًا تواطآ عليه كان حكمه حكم الأنكحة الفاسدة. وكذلك إن تواطآ على هبة أو بيع لإسقاط الزكاة، أو على هبة لتصحيح نكاح فاسد، أو وقف فاسد، مثل أن تريد مواقعة مملوكها فتهبه لرجل فيزوجها به، فإذا قضت وطرها منه استوهبته من الرجل فوهبتها إياه، فانفسخ النكاح، فهذا البيع والهبة فاسدان في جميع الأحكام.
وإن كان الاحتيال من واحد، فإن كانت الحيلة يستقل بها لم يحصل بها غرضه. فإن كانت عقدًا كان فاسدًا، مثل أن يهب لابنه هبة يريد أن يرجع فيها لئلا يجب عليه الزكاة فإن وجود هذه الهبة كعدمها ليست هبة في شيء من الأحكام، لكن إن ظهر المقصود ترتب الحكم عليه ظاهرا وباطنا وإلا كانت فاسدة في الباطن فقط.
وإن كانت حيلة لا يستقل بها، مثل أن ينوى التحليل، ولا يظهره للزوجة، أو يرتجع المرأة إضرارًا بها، أو يهب ماله إضرارًا للورثة ونحو ذلك، كانت هذه العقود بالنسبة إليه وإلى من علم غرضه باطلة، فلا يحل له وطء المرأة ولا يرثها لو ماتت. وإذا علم الموهوب له، والموصى له غرضه باطلا: لم يحصل له الملك في الباطن. فلا يحل له الانتفاع به بل يجب رده إلى مستحقه. وأما بالنسبة إلى العاقد الآخر الذي لم يعلم فإنه صحيح يفيد مقصود العقود الصحيحة، ولهذا نظائر كثيرة في الشريعة.
وإن كانت الحلية له وعليه كطلاق المريض، صح الطلاق من جهة أنه أزال ملكه ولم يصح من جهة أنه يمنع الإرث. فإنه إنما منع من قطع الإرث، لا من إزالة ملك البضع.
وإن كانت الحيلة فعلا يفضى إلى غرض له مثل أن يسافر في الصيف ليتأخر عنه الصوم إلى الشتاء، لم يحصل غرضه بل يجب عليه الصوم في هذا السفر.
قلت: ونظير هذا ما قالت المالكية: إنه لا يستبيح رخصة المسح على الخفين إذا لبسهما لنفس المسح، فلو مسح لذلك لم يجزه، وعليه إعادة الصلاة أبدا. وإنما تثبت الرخصة في حق من لبسهما لحاجة، كالبرد والركوب ونحوهما. فيمسح عليهما لمشقة النزع.
وخالفهم باقى الفقهاء في ذلك، والمنع جار على أصول من راعى المقاصد.
قال شيخنا: وإن كان يفضى إلى سقوط حق غيره مثل أن يطأ امرأة أبيه أو ابنه، لينفسخ نكاحه، أو مثل أن تباشر المرأة ابن زوجها، أو أباه عند من يرى ذلك موجبا للتحريم، فهذه الحيل بمنزلة الإتلاف للملك بقتل أو غصب لا يمكن إبطالها، لأن حرمة المرأة بهذا السبب حق الله تعالى يترتب عليه فسخ النكاح ضمنا. والأفعال الموجبة للتحريم لا يعتبر لها العقل فضلا عن القصد. وهذا بمنزلة أن يحتال على نجاسة مائع فإن نجاسات المائعات بالمخالطة، وتحريم المصاهرة بالمباشرة، أحكام تثبت بأمور حسية فلا ترفع الأحكام مع وجود تلك الأسباب.
قلت: هذا كان قول الشيخ أولًا ثم رجع إلى أن تحريم المصاهرة لا يثبت بالمباشرة المحرمة. وحينئذ فصورة ذلك: أن ترضع ابنته الكبيرة أو أمته امرأته الصغيرة. لينفسخ نكاحها. فإن فسخ النكاح هاهنا لا يتوقف على العقل ولا على القصد، بل لو كانت المرضعة مجنونة يثبت التحريم، فهو بمنزلة أن يلقى في مائعه ما ينجسه.
قال: وإن كانت الحيلة فعلا يفضى إلى تحليل له أو لغيره مثل أن يقتل رجلًا ليتزوج امرأته، أو يزوجها غيره. فهاهنا تحل المرأة لغير من قصد تزويجها به. فإنها بالنسبة إليه كمن مات عنها زوجها، أو قتل بحق أو في سبيل الله. وأما بالنسبة إلى من قصد بالقتل أن يتزوج المرأة إما بمواطأة منها أو بدونها، فهذا يشبه من بعض الوجوه ما لو خلل الخمر بنقلها من موضع إلى موضع، من غير أن يطرح فيها شيئًا. والصحيح أنها لا تطهر، وإن كانت تطهر إذا تخللت بفعل الله تعالى. وكذلك هذا الرجل لو مات بدون هذا القصد حلت المرأة، فإذا قتله لهذا القصد أمكن أن يقال تحرم عليه مع حلها لغيره.
ويشبه هذا: الحلال إذا صاد الصيد وذبحه لحرام، فإنه يحرم على ذلك المحرم ويحل للحلال.
ومما يؤيد هذا: أن القاتل يمنع الإرث، ولا يمنعه غيره من الورثة. لكن لما كان مال الرجل تتطلع إليه نفوس الورثة كان القتل مما يقصد به المال، بخلاف الزوجة فإن ذلك لا يكاد يقصد، فإن التفات الرجل إلى امرأة غيره بالنسبة إلى التفات الورثة إلى مال المورث قليل. وكونه يقتله ليتزوجها، فهذا أقل. فلذلك لم يشرع أن من قتل رجلًا حرمت عليه امرأته، كما شرع أن من قتل مورثا منع ميراثه، فإذا قتله ليتزوج بها فقد وجدت الحكمة فيه فيعاقب بنقيض قصده.
وأكثر ما يقال في رد هذا: أن الأفعال المحرمة لحق الله تعالى لا تفيد الحل، كذبح الصيد، وتحليل الخمر، والتذكية في غير المحل.
أما المحرم لحق الآدمى، كذبح المغصوب، فإنه بفيد الحل. أو يقال: إن الفعل المشروع لثبوت الحكم يشترط فيه وقوعه على الوجه المشروع كالذكاة والقتل لم يشرع لحل المرأة، وإنما انقضاء النكاح بانقضاء الأجل، فحصل الحل صمنا وتبعًا.
ويمكن أن يقال في جواب هذا: إن قتل الآدمى حرام لحق الله تعالى وحق الآدمى. ولهذا لا يستباح بالإباحة، بخلاف ذبح المغصوب، فإنه حرم لمحض حق الآدمى. ولهذا لو أباحه حل، فالمحرم هناك إنما هو تفويت المالية على المالك لا إزهاق الروح.
وقد اختلف في الذبح بآلة مغصوبة، وفيه عن أحمد روايتان واختلف العلماء في ذبح المغصوب، وقد نص أحمد على أنه ذكى. وفيه حديث رافع بن خديج في ذبح الغنم المنهوبة، والحديث الآخر في المرأة التي أضافت النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، فذبحت له شاة أخذتها بدون إذن أهلها، فقال: «أَطعْمِوُهَا الأُسَارَى».
وفى هذا دليل على أن المذبوح بدون إذن أهله يمنع من أكله المذبوح له دون غيره، كالصيد إذا ذبحه الحلال لحرام، حرم على الحرام دون الحلال.
وقد نقل صالح عن أبيه فيمن سرق شاة فذبحها: لا يحل أكلها، يعنى له، قلت لأبى: فإن ردها على صاحبها؟ قال: تؤكل.
فهذه الرواية قد يؤخذ منها أنها حرام على الذابح مطلقًا، لأن أحمد لو قصد التحريم من جهة أن المالك لم يأذن له في الأكل، لم يخص الذابح بالتحريم.
فهذا القول الذي دل عليه الحديث في الحقيقة حجة لتحريم مثل هذه المرأة على القاتل ليتزوجها دون غيره بطريق الأولى.
هذا كله كلام شيخنا.
وبعد، فالتحريم مطرد على قواعد أحمد، ومالك من وجوه متعددة.
منها: مقابلة الفاعل بنقيض قصده كطلاق الفار، وقاتل مورثه، وقاتل الموصى، والمدبر إذا قتل سيده.
ومنها: سد الذرائع.
ومنها: تحريم الحيل.
ومنها: تخليل الخمر كما ذكره شيخنا، والله تعالى أعلم.
قال: فتلخص أن الحيل نوعان: أقوال، وأفعال.
فالأقوال: يشترط لثبوت أحكامها العقل، ويعتبر فيها القصد، وتكون صحيحة تارة، وفاسدة أخرى.
ثم ما ثبت حكمه، منه ما يمكن فسخه ورفعه بعد وقوعه، كالبيع والنكاح. ومنه مالا يمكن فيه ذلك كالعتق والطلاق.
فهذا الضرب إذا قصد به الاحتيال على فعل محرم، أو إسقاط واجب أمكن إبطاله، إما من جميع الوجوه، وإما من الوجه الذي يبطل مقصود المحتال، بحيث لا يترتب عليه الحكم المحتال على حصوله، كما حكم به الصحابة رضوان الله تعالى عليهم في طلاق الفار.
وأما الأفعال: فإن اقتضت الرخصة للمحتال لم تحصل كالسفر للقصر والفطر. وإن اقتضت تحريمًا على الغير فإنه قد يقع وتكون بمنزلة إتلاف النفس والمال. وإن اقتضت حلًا عامًا إما بنفسها أو بواسطة زوال الملك، فهذه مسألة القتل وذبح الصيد للحلال، وذبح المغصوب للغاصب.
وبالجملة: فإذا قصد بالفعل استباحة محرم لم يحل له، وإن قصد إزالة ملك الغير ليحل له فالأقيس أن لا يحل له أيضًا وإن حل لغيره.
وقد دخل في القسم الأول احتيال المرأة على فسخ النكاح بالردة، فهى لا تمشى غالبا إلا عند من يقول: الفرقة تنجز بنفس الردة، أو يقول: بأنها لا تقتل، فالواجب في مثل هذه الحيلة: أن لا ينفسخ بها النكاح، وإذا علم الحاكم أنها ارتدت لذلك لم يفرق بينهما. وتكون مرتدة من حيث العقوبة والقتل، غير مرتدة من حيث فساد النكاح، حتى لو توفيت أو قتلت قبل الرجوع استحق ميراثها، لكن لا يجوز له وطؤها في حالة الردة، فإن الزوجة قد يحرم وطؤها بأسباب من جهتها كما لو أحرمت، لكن لو ثبت أنها ارتدت ثم قالت: إنما ارتدت لفسخ النكاح، لم يقبل هذا، فإنه قد يجعل ذريعة إلى عود نكاح كل مرتدة، بأن تلقن أنها إنما ارتدت للفسخ، ولأنها متهمة في ذلك، ولأن الأصل أنها مرتدة في جميع الأحكام.
فصل:
وقد استدل البخارى في صحيحه على بطلان الحيل بقوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: «لا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ، وَلا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ، خَشْيَةَ الصَّدَقَةَ».
فإن هذا النهى يعم ما قبل الحول وما بعده.
واحتج بقوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم في الطاعون: «إِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ».
وهذا من دقة فقهه رحمه الله، فإنه إذا كان قد نهى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عن الفرار من قدر الله تعالي إذا نزل بالعبد، رضا بقضاء الله تعالى وتسليمًا لحكمه، فكيف بالفرار من أمره ودينه إذا نزل بالعبد؟.